من القواعد التي يُبنى عليها إيمان كل مسلم محبة الرسول ﷺ، فحبه ﷺ قيمة دينية تنبثق من أصل الإيمان بالرسل الكرام، وهذه القيمة من الواجب على المؤمن أن يتمثلها حتى يكتمل إيمانه، فإن لم تَفُق محبته ﷺ كل حب حصل الخلل في إيمان العبد، يقول ﷺ في الحديث الذي رواه أنس بن مالك ﷺ: “ لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتى يكونَ اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهُما” رواه البخاري ومسلم.
ولأن القيم: “مجموعة من المعايير والأحكام التي تتشكل لدينا من خلال تفاعلنا مع المواقف والخبرات الفردية والاجتماعية، وتؤثر على اختيارانا لأهدافنا وتوجهات حياتنا”، كان لا بد من اعتبار محبة النبي ﷺ قيمة تتشكل معاييرها وأحكامها بدقة كي نضبط السلوكات المتولدة عنها، وكما هو معلوم أن التربية القيمية بنائية ومتدرجة وتتشكل في النفس من خلال تعميق الجانب المعرفي بمعرفة أبعادها، وأحكامها، وأمثلتها.
وغرس في الجانب الوجداني الذي يتضمن الرغبة في التزام الفرد وحرصه على تمثل القيمة في حياته العملية مع شعوره بالسعادة والرضا، وتقوية للجانب المهاري من خلال تطبيقها في الحياة، وظهورها على شكل سلوك. فقيمة محبة النبي ﷺ تحتاج إلى معرفة يتولد عنها محبة وتنعكس آثارها على السلوك فينتج الاتباع والتأسي.
وحتى نغرس قيمة محبة النبي ﷺ في قلوب أولادنا ذكوراً وإناثاً لا بد من خطة عملية تكرس المعاني في العقول لتنبت المحبة في القلوب ويشع نور الاقتداء بالمحبوب على الجوارح من خلال الانتظام السلوكي، وهنا نطرح خطة للوالدين من أهم نتاجاتها المتوقعة: أن يَتَمثَّل أولادنا أقوال وأفعال النبي ﷺ في حياتهم. ومن أبرز الأهداف المحققة لهذا النتاج؛ أن يُبدي أولادنا اهتماماً عند سماعهم قصص وأقول ومآثر محمد ﷺ، وأن يُظهروا وعياً بأهمية محبته واتباع هديه، ويلاحظوا أثر محبته واتباعه على حياة الأفراد والمجتمعات، وأن يستجيبوا استجابات تشكل اتجاهات نحو المحبة للنبي ﷺ كالأنشطة المدرسية أو المسابقات المتعلقة بحديثه أو سيرته العطرة، وصولاً لمحبة تشمل التقدير والتعظيم لذاته الشريفة وأعماله العظيمة يرافقها بغض من يبغضه و يعاديه ﷺ، ليكون النتاج النهائي بتمثل سلوكه واتباع طريقه.
وحتى تكون المقالة فيها أدوات وأنشطة لتحقيق النتاج والأهداف اخترت أن أضرب لكل مرحلة من مراحل التمثل القيمي لمحبته ﷺ أنشطة مقترحة على سبيل المثال لا الحصر، تساهم في تعميق المحبة في القلوب ونمذجة العمل لينعكس على السلوك. وقبل الشروع في التخطيط لمراحل البناء القيمي يلزم الوالدين أداة لتشخيص مستوى قيمة محبة النبي ﷺ في قلوب أولادهم وهذا يمكن تنفيذه بعدة أدوات للقياس منها؛ الملاحظة من الوالدين أو الأقارب أو المعلمين، وقائمة الشطب التي تكون فيها عبارات قياسية -مؤشرات أداء- نشخص بها حال أولادنا وتتم الإجابة عنها بــ (بنعم أو لا) أو (مُرضٍ أو غير مرضٍ) ونحو ذلك، وسلم التقدير الذي يتم الإجابة عن مؤشرات الأداء فيه بعلامة تقديرية من (1-5) أو بوصف يصف مقدار التأسي والتزام تنفيذ ما ورد في العبارة مثل (دائماً – أحياناً – أبداً)، ومن أمثلة المؤشرات التي تكون الإجابة عنها بسلم تقدير عددي يعبر عن تشخيص تمثل قيمة محبة النبي عند أولادنا النموذج الآتي:
وبعد هذه المرحلة المهمة من تشخيص الحالة القيمية يأتي التخطيط للأهداف من خلال مجموعة من الأنشطة والإجراءات والوسائل وطرق التربية القيمية، وذلك في سلسلة من الخطوات والمراحل في رحلة التمثل القيمي نبدأ بها بمرحلة الاستقبال يتبعها الاستجابة ثم التثمين فالتنظيم للوصول إلى التمثل القيمي، ولتسهيل الأمور على القارئ الكريم أصوغ له مجموعة من الإجراءات المقترحة في كل مرحلة من هذه المراحل مطبقاً على ذلك بأمثلة في غرس قيمة محبة النبيr.
أولاً: مرحلة الاستقبال:
والهدف الأول فيها أن يُبدي أولادنا اهتماماً عند سماعهم سيرة وأحاديث ومآثر محمد ﷺ، وهنا يقوم أولياء الأمور بأنشطة تهدف إلى توجيه اهتمام الأولاد نحو قيمة محبة النبي ﷺ من خلال؛ تلاوة الآيات التي ذكر بها ﷺ، أو عرض فيديو تاريخي عن حياته أو أنشودة عنه r كأنشودة “لو كان بيننا الحبيب”، أو استثمار حضور خطب الجمعة أو دروس الدعاة الثقات المبثوثة في الشبكة العنكبوتية، ويتم بعد ذلك السؤال عن الفكرة الرئيسة دون تقديم أي تهيئة للابن عن موضوع العرض مسبقاً. وبعدها يتم تقييم الابن من خلال ملاحظة مدى إعجابه بالنشاط، وكذلك ملاحظة قدرته على تحديد الفكرة الرئيسة أم لا، كما يتم التأكد من تحقق المؤشرات الأساسية كإبداء اهتمامه بالأنشطة والسؤال أكثر عن حياة النبي وتحرك اللسان بالصلاة عليه ﷺ.
أما الهدف الثاني المقترح في مرحلة الاستقبال أن يُظهر أولادنا وعياً بأهمية محبته ﷺ واتباع هديه، وهنا يقوم أولياء الأمور بنشاط يهدف إلى تنمية وعي الابن بأهمية إرسال الله تعالى لمحمد ﷺ وتخيل الدنيا من غير هديه فينا، وذلك من خلال مجموعة من الأنشطة، أبرزها استخدام مفتاح التفكير “ماذا لو؟”، وطرح مجموعة من الأسئلة الافتراضية التي تتعلق ببعثة النبي ﷺ، مثل: ماذا لو لم يرسل محمد ﷺ إلى العالم؟ بحيث يفكر الابن في أهمية إرساله ﷺ إلى البشرية، كما يفكر بالنتائج المترتبة على التزام جميع الناس بهديه، من خلال سؤال: ماذا لو التزم جميع المسلمين بهديه ﷺ؟ كما يفكر بالنتائج المترتبة على ترك هديه وسنته من خلال سؤال: ماذا لو لم يلتزم المسلمون بأخلاق وسنن ومنهج النبي ﷺ؟ وبعدها يقيم ولي الأمر المشرف على النشاط الابن من خلال ملاحظة مدى إعجابه بالنشاط، وكذلك ملاحظة ردة فعله على إجابة أسئلة ماذا لو؟، وملاحظة زيادة مستوى الوعي بأهمية محبة واتباع محمد ﷺ.
ثانياً: مرحلة الاستجابة:
والهدف منها أن يستجيب أولادنا استجابات نابعة من قناعتهم تشكل اتجاهات نحو المحبة للنبي ﷺ كمشاركتهم في الأنشطة البيتية أو المدرسية أو المجتمعية أو المسابقات المتعلقة بحديثه أو سيرته العطرة ﷺ ، ومن المسابقات المقترحة؛ حفظ الأربعين النووية، حفظ أذكار الصباح والمساء، مسابقة ثقافية عن حياة النبي، ومسابقة المواهب؛ أجمل عبارة أو خاطرة أو شعر أو نثر في حقه ﷺ. وتقييم هذه المرحلة سهل جداً لأن للأنشطة أثراً يقدر باستجابة حقيقية ويترك أثراً، فعندما يناقش ابني بفاعلية أثر إيماننا به ﷺ واتباعه، ويقوم بالاستجابة للمشاركة الفاعلة في أداء مهمة عن النبي ﷺ عند ذلك أقدر مدى حرصه على القيمة.
ثالثاً: مرحلة تثمين القيمة:
والهدف منها أن يعطي الأولاد قيمة لمحبة النبيr في القلوب ويشمل ذلك التقدير والتعظيم لذاته الشريفة وأعماله العظيمة، يرافقها بغض من يبغضه و يعاديه ﷺ، ولتعميق ذلك طرق عدة منها النمذجة من حياة الصحابة الذين أحبوه ودافعوا عنه وكان عندهم أحب من أنفسهم والناس أجمعين، كما هو الحال من النمذجة لمن عاداه وآذاه، ثم الانتقال من النمذجة التاريخية للمحاكاة الواقعية من خلال عصف ذهني لأفعال يحبها النبيr فينا لو كان بيننا، ومحاكاة الأذى الذي يتم الآن في حقه من الغرب بالرسوم المسيئة والتهم الباطلة، ولِسنَّته من طعن وقدح، وكل ذلك قائم على جلسات حوارية نقاشية هادئة بين الآباء والأولاد للوصول إلى الهدف المنشود من تثمين وتعظيم للمصطفى ﷺ.
رابعاً: مرحلة التنظيم القيمي:
وتهدف هذه المرحلة – التي قد تتداخل بأي مرحلة أخرى خلال زرع القيمة – إلى فك التعارض بين الأسئلة التي يطرحها الأولاد إذا أشكل عليهم شيء من حياته ﷺ، وإظهار التوازن في حياته ﷺ، وحسن التنظيم القيمي وترتيب الأولويات في حياته. ومن ذلك على سبيل المثال: بيان قصة عمر بن الخطاب في تقديم حب نفسه على حب النبي ثم التراجع عن ذلك بعد حديث النبي ﷺ معه، وإجابة الابن عن التعارض في أمره ﷺ بعدم الغضب وما ورد بأنه ﷺ كان يتمعر وجهه غضباً إذا انتهكت حرمات الله، وإزالة اللبس في أن أمرهr لا يجوز مخالفته وحادثة تنفيذ الصحابة للأمر بطريقتين منهم من صلى في بني قريظة والآخرون صلوا قبل الوصول حرصاً على وقت الصلاة. وذلك شأنه زيادة الثقة بالحبيب ﷺ ومنهجه وطريقه وشرعه الذي جاء به من عند ربه.
خامساً: مرحلة التمثل القيمي:
وهي النتاج النهائي الذي نسعى له في تصميم خطة التمثل القيمي حيث يكون الحب حقيقياً من غير تكلف أو تنطع، ويظهر في القول والسلوك، والاتباع الحقيقي لهديه والاحتكام لشرعه، وذلك التأسي الذي أراده لنا ربنا في قوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب:21).
وبعد هذا التسلسل في التخطيط لغرس قيمة محبة النبيr أؤكد أن مع هذه الرحلة الممتعة ينبغي على الوالدين التأكد من صفاء القناعات التي يحملها أولادهم تجاه الدين وحامل لوائه ﷺ، وبعد التأكد من صفاء القناعات وتغييرها الإيجابي في حال لوحظ أي ثغرة، يحرص الوالدان على مراقبة اهتمامات أولادهم ويوجهوها نحو ما فيه خير ونفع مستأنسين بسيرة النبي العطرة، كما من واجبات أولياء الأمور صقل المهارات لأولادهم واستثمار صقل المهارات بتكاليف عملية مرتبطة بحياته ﷺ، فلصقل العرض والتقديم يكون التكليف بتجهيز عرض عن المحبوب ﷺ وفي صقل مهارات التفكير وحل المشكلات نقتبس من نصوص السيرة ما يمكن التطبيق عليه كالتطبيق على قصة أم سلمة مع النبي ﷺ يوم الحديبية والقدرة على حل المشكلات، كما على الوالدين توفير بيئة جيدة من العلاقات والقدوات لتكون منارة لأولادهم وصحبة صالحة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن.
وأخيراً فإن محبته ﷺ ليست كلاماً مكتوباً يتم رصفه بصورة منمقة، ولا حديثاً منمقاً يصدر من خطيب مفوَّه، إنما قيمة تستقر في القلب فيشع نورها سلوكاً يعبر عن تلك المحبة.
مستشار تربوي وأسري
لتحميل تطبيق ملاذ:
Android – IOS
تعليق واحد
جزاكم الله خيرا كثيرا وبارك الله بجهودكم الطيبة