يُصنع أحدنا أو جزء كبير منا؛ هويتنا، أنماط تفكيرنا، تصوراتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا في بيئاتنا ومحيطنا الذي نشأنا فيه، وتكونت سماتنا الشخصية في ذلك المحيط الذي سماه مالك بن نبي الثقافة في “مشكلة الثقافة”. بعد ذلك أو أثناءه تتلقفنا آلة الإعلام لتصنع واقعنا وتعيد صياغتنا بما يتناسب مع غايات مهندسيها، أو مهندسي وعينا لدقة أكثر! وهذه الثقافة الجماهيرية التي يشكلها الإعلام ويتلاعب بها هي التي حاول بعض الفلاسفة وعلماء النفس تفسيرها، وانتقدها البعض الآخر كعلي عزت بيجوفيتش في كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب“. وفي واقع معقد ومتلاحم بعنف وكثير الطبقات أتساءل ألا من سبيل للخروج من هذا المأزق؟! مأزق المحيط والتنشأة، ومأزق العقل الجمعي والثقافة الجماهيرية..
أظن مناسبة التأريخ الهجري تفتح لنا أفقاً واسعا للتدبر والتأمل للتعامل مع هذا المأزق.. نحن بحاجة إلى هجرة.. هجرة حاسمة.
الهجرة النبوية
لعل الهجرة النبوية بدأت في تلك الليلة المفصلية التي هطلت فيها زخات من حروف السماء فشكلت الفرض الأول، فعل الأمر المستمر حتى قيام الساعة.. “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ“.. وكل ما بعدها كان امتدادا لها.. إنها الهجرة الأولى حيث الانتقال أو الترك أو الإعراض.. حيث اليقظة والنهوض ثم القيام.. القراءة عملية عقلية تقوم على تفكيك رموز تسمى الحروف تكون معنى محدد. وعلى المستوى الأعم فإنها عملية عقلية تحاول تفكيك الكون وفهم سننه وآلياته.. الوعي، الإدراك، الفهم، كلها مفردات متشابكة تزيل أي جدار أو “إطار فكري” يقيد العقل ويضيق زوايا الرؤية فيحررنا من ضغط الثقافة (الثقافة كمحيط)، ويصنع حولنا درعاً يقينا لأواء الثقافة الجماهيرية وسلاحها الإعلامي الذي يزيف واقعنا ويدمر وعينا. لكل منا هجرة يحتاجها اليوم، بل الآن أكثر من أي شيء آخر.. ليست جسدية وإنما تبدأ بكلمة “اقْرَأْ“..
د. فالح الرويلي